صعود اليمين المتطرف في أوروبا- أزمة قيادة، شيخوخة مجتمعية، وأفكار متطرفة

المؤلف: د. خالد عزب10.10.2025
صعود اليمين المتطرف في أوروبا- أزمة قيادة، شيخوخة مجتمعية، وأفكار متطرفة

تشهد القارة الأوروبية تصاعدًا ملحوظًا في نفوذ التيارات اليمينية المتطرفة على الساحة السياسية خلال السنوات القليلة الماضية، وبرز هذا الاتجاه جليًا بشكل خاص في عام 2024، حيث حقق حزب البديل من أجل ألمانيا نجاحات لافتة في الانتخابات الإقليمية، ففي ولاية تورينغن، حصد اليمين المتطرف ما يقارب ثلث الأصوات، ليحتل المرتبة الثانية في ولاية ساكسونيا.

إن هذه الظاهرة الصاعدة والمتمثلة في تزايد قوة اليمين المتطرف في أوروبا تستدعي دراسة معمقة وتحليلًا دقيقًا لأسبابها وعواملها الدافعة، ولعل أحد أهم هذه العوامل، والذي لم يحظ بالقدر الكافي من الاهتمام في الدراسات والأبحاث، هو تراجع وانحسار النموذج الليبرالي الذي كان يعبر عن مصالح الرأسمالية الغربية، وسقوطه في براثن الرأسمالية المتوحشة، خاصة بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، الأمر الذي أدى إلى شعور الأحزاب الأوروبية الكبرى بنوع من الغرور السلطوي، وفقدانها القدرة على رؤية الواقع بصورة واضحة وسليمة، وقد ولد هذا الوضع ما يمكن تسميته بـ "نهاية الأيديولوجيا" أو التنظير السياسي، والتخلي عن محاولة صياغة خطاب سياسي متكامل يطرح مشروعًا سياسيًا مقنعًا للجماهير.

هذه الفجوة أو الثغرة، التي أطلق عليها مجازًا "الحداثة السائلة"، أفرزت في نهاية المطاف سياسيين أقل كفاءة وقدرة مقارنة بالجيل السابق من الزعماء والقيادات السياسية في أوروبا، فماكرون على سبيل المثال، لا يمتلك نفس الكفاءة التي كان يتمتع بها رؤساء فرنسا السابقون مثل فرانسوا ميتران، أو فاليري جيسكار ديستان، أو حتى جاك شيراك، الأمر الذي أدى إلى تراجع هيبة مؤسسة الرئاسة الفرنسية أمام الخطاب الشعبوي الذي يتبناه جان ماري لوبان، مما أدخل فرنسا في أزمة سياسية غير مسبوقة.

أزمة القيادة في أوروبا

يقودنا ما سبق إلى الحديث عن أزمة القيادة التي تعاني منها أوروبا، وهي أزمة لا تقتصر عليها وحدها، وهذا ما دفع المفكر والسياسي المخضرم هنري كيسنجر إلى تأليف كتابه "القيادة" قبل وفاته، حيث طرح تساؤلات جوهرية حول مفهوم القائد السياسي، وديناميكيات عمله، وما يستند إليه من رؤية وخيال سياسي مبني على الموهبة السياسية، في الوقت الذي بات فيه خطاب اليمين المتطرف في أوروبا يلامس المشاعر ويثير العواطف، وبالتالي يكسب مزيدًا من التأييد والانتشار يومًا بعد يوم.

إن الارتفاع الملحوظ في أسعار الطاقة وتصاعد معدلات التضخم، كنتيجة طبيعية وتداعيات مباشرة للحرب الروسية الأوكرانية، قد دفع بأحزاب اليمين المتطرف في دول مثل ألمانيا، وفرنسا، وهولندا، والمجر، والنمسا إلى تحقيق المزيد من المكاسب والإنجازات في الانتخابات المحلية، وفي انتخابات البرلمان الأوروبي في عام 2024، لدرجة يمكن معها القول بثقة إن عام 2024 هو عام صعود اليمين المتطرف في أوروبا بلا منازع.

وبنظرة أكثر تعمقًا وتفحصًا، قد يلاحظ المراقب أن هذا اليمين المتطرف يتركز بشكل أساسي في غرب أوروبا، بينما لا تعاني دول الشرق الأوروبي من نفس المشكلة، ولكن في حقيقة الأمر، فإن أوروبا الشرقية هي من تدفع هذا اليمين إلى السلطة، وذلك لأن أوروبا الغربية لم تدرك أن الفراغ الفكري الذي خلفته الشيوعية كان من الضروري ملؤُه بأفكار بديلة، فتحول هذا الفراغ إلى بيئة مثالية لنمو اليمين المتطرف وتطوره، وتعتبر المجر مثالًا واضحًا على ذلك، فهي كانت من أكبر الخاسرين في الحرب العالمية الأولى، حيث فقدت جزءًا كبيرًا من أراضيها، وما زال الحنين إلى "المجر الكبرى" يراود الكثيرين.

إذا كان هذا هو الوضع في الشرق، فماذا عن منطقة الشمال الغني والأكثر رفاهية واستقرارًا؟

سنأخذ حالة السويد كمثال، وهي الدولة التي اشتهرت بتقاليد التسامح والانفتاح التي تميز المجتمعات الإسكندنافية، ففي السويد، برزت "حركة المقاومة الشمالية"، وهي حركة اشتراكية عابرة للحدود الوطنية، وتمثل تيار النازية الجديدة، ولها فروع في كل من فنلندا والنرويج، وتتلقى الدعم من النازيين الجدد في الدانمارك وآيسلندا، وقد تم تأسيس هذه الحركة على يد القوميين النازيين الجدد في السويد عام 1997، وهي تدعو إلى توحيد بلدان شمال أوروبا في دولة قومية اشتراكية موحدة، ولدى الحركة موقع إلكتروني نشط على شبكة الإنترنت، بالإضافة إلى نشاط مكثف على وسائل التواصل الاجتماعي، كما أنها تبث برنامجًا إذاعيًا عبر راديو أسسه أحد أعضاء المجموعة، وهو روبن بالمبلاد.

شيخوخة الأوروبيين

تجدر الإشارة إلى أن أوروبا كانت قد قامت بحظر النازيين في أعقاب الحرب العالمية الثانية، مما أجبر حركة النازيين الجدد على اتخاذ أشكال مختلفة والعمل تحت غطاء غير صريح، ولكن في السنوات الأخيرة، أصبح حضور النازيين الجدد أكثر وضوحًا وجلاءً، أما الفاشية في موطنها الأصلي إيطاليا فلم يتم حظرها، ولا يزال وجودها محسوسًا، حيث توجد العديد من الجماعات والأحزاب التي تتبنى الأفكار الفاشية وعنصريتها بشكل صريح. ومن بين هذه الحركات:

فورزا نوفا: حجر الزاوية في فكرها هو شعار "الإيطاليون أولًا"، حيث يسعى الحزب إلى تحفيز النمو السكاني، وإعادة إحياء دور الكنيسة الكاثوليكية، ومعارضة زواج المثليين، والعمل على ترحيل المهاجرين.

جماعة الفيلق الأخير: وهي جماعة متعصبة ومتطرفة، وفي مايو/أيار 2021، داهمت الشرطة 25 منزلًا لأعضائها، وصادرت كميات من الأسلحة والمواد الدعائية، وهي تنادي علنًا باستخدام العنف ضد المهاجرين.

رابطة الشمال: حزب سياسي يسعى إلى استقلال شمال إيطاليا الغني عن الجنوب الفقير.

كان صعود جورجيا ميلوني وحزبها "إخوة إيطاليا" إلى السلطة في عام 2022 بمثابة رمز بارز لصعود الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا، فهي الآن تحكم إيطاليا بعد فوزها بـ 237 مقعدًا من أصل 400 مقعد في البرلمان.

أفكار متطرفة

هناك مجموعة من القواسم المشتركة تجمع بين مختلف أطياف اليمين المتطرف في أوروبا، سواء كانوا جماعات أو أحزابًا. أهم هذه المشتركات هي:

هاجس الهجرة: في ظل شيخوخة المجتمعات الأوروبية ونقص الأيدي العاملة، خاصة في التخصصات الحيوية بالنسبة للأوروبيين كالطب والهندسة، بدأ الكثيرون يدركون أن أوروبا تشهد تحولًا ديموغرافيًا وتغيرًا في هويتها، وأنها بمرور الوقت قد تخرج عن أصولها لتصبح أوروبا أخرى، هذا الهاجس شكّل رافدًا قويًا غذّى العصبية الأوروبية، وأحيا مقولة تفوق الجنس الأبيض، فصار طرد المهاجرين مطلبًا شعبويًا، ليطرح السؤال الصعب الذي لم تجد أوروبا إجابة شافية له حتى الآن: هل تستطيع أوروبا العيش والبقاء دون الاعتماد على المهاجرين؟

محاربة المثلية: باعتبارها مخالفة للطبيعة الإنسانية، وتشكل عائقًا أمام النمو السكاني الطبيعي للسكان الأصليين، كما أن سكان المدن الصغيرة والمناطق الريفية يرون أنها تتعارض مع القيم الدينية.

عودة الكنيسة: كمحفز للرابطة الوطنية، ومحفز للتعصب والعصبية الدينية.

الشعبوية السياسية: حيث يحدد عامة الناس توجهات السياسة، وهذا ما أفرزته الحداثة السائلة ونهاية الأيديولوجيا في أوروبا.

السلطوية: ترتكز على تشديد قبضة السلطة وتعظيم استخدام العنف.

الانكفاء على الداخل: تدعو جميع الأحزاب اليمينية المتطرفة والجماعات المتطرفة في أوروبا إلى الانكفاء على الداخل، فمعظمها يعارض الاتحاد الأوروبي حتى لو استخدمه مؤقتًا، وهي تدعو إلى العصبية الوطنية في أقصى صورها، وبعد الانتخابات الأخيرة، بدأت ألمانيا في تفتيش السيارات القادمة عبر حدودها، بل إن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كان نتيجة للدعوات التي أطلقها حزب الاستقلال البريطاني.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة